"زكاة النفس في ميزان السماء".
لقد عرض القرآن الكريم مؤكداً الجانب العلمي المعرفي كما أكد الجانب السلوكي المنبعث من الهداية وتربية النفس، وبالنظر إلى آيات القرآن الكريم نجد شذراته من المطلبين متناثرة في عموم آياته وسوره، والاستقراء الإحصائي للآيات المباركة أفرزت لنا أربع آيات رصدت تلازم مفهومي التربية والتعليم تلازماً قهرياً.
إذ لا يخفى أنَّ تقديم أحدى المفردتين على الأخرى في النص القرآني له دلالة ترشدنا إلى مقصد الله سبحانه، وقد يدل على التسلسل المنطقي لتحقيق الغاية في الوقت نفسه، حينئذ يتبين لنا أهمية هذه المفردة على تلك، وقد يكون غير ذلك! والملفت للانتباه أن ثلاث آيات من أصل أربع قدمت التربية (يُزَكِّيهِمْ) على التعليم (يُعَلِّمُهُمُ) وهي سورة البقرة: الآية 151/ وسورة آل عمران: الآية 164/ وسورة الجمعة: الآية 2، على حين كانت هناك آية واحدة فقط قدمت التعليم على التربية، في قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) سورة البقرة: الآية 129، مما يستدعي التأمل في هذه المفارقة التي تثير الاستغراب لوجود تباين ظاهري بين الآية المذكورة آنفاً ومجموعة الآيات الأُخر، والحق أنَّ الناظر في الآيات الأربع يجد مكنونات غيبية ونكات إعجازية تكمن خلف هذا التباين الذي يكشف سر المطلبين وهو على النحو الآتي:
1- إن التأكيد على تقديم التربية (يُزَكِّيهِمْ) على التعليم (يُعَلِّمُهُمُ) في ثلاث آيات دلالة واضحة على أنَّ زكاة النفس هي غاية سماوية كبرى.
2- نفيد أنَّ تقديم التربية على التعليم مقصده أهمية التربية فهي مراد الله تعالى، إذ الإنسان ــ في ضوء القرآن الكريم ــ يُحاسب على عمله قبل أنْ يُحاسب على علمه.
3- يُعد العمل روح العلم وترجمانه، إذ يمكن أنْ يكون الإنسان عالماً، لكن ليس بالضرورة أنْ يكون إنساناً طاهراً صافياً صادقاً إلا عبر تربية النفس وتزكيتها.
4- تُعد التزكية تنقية للجهل علمياً وللنفس والجوارح عملياً، فالتربية أعم من التعليم بلحاظ أنَّ التزكية تعني النمو، وهذا النمو يشمل الجوانب المادية والمعنوية والنظرية والعملية.
5- يتبين استدلالياً أنَّ الحفاظ على النظم الاجتماعية بين الإنسان وبقية جنسه والمخلوقات الأُخرى إنما يتأتى من السلوك السوي المنبعث من تسامي النفس وتنامي كمالات فضائلها الأخلاقية لا من التنظير العلمي على الرغم من أهميته، والحال كذلك بالنسبة لعلاقة الإنسان مع ربه ونفسه، إذ يُنظر للعلاقة العملية قبل الجنبة النظرية.
6- عرضت الآيات الأربع مفردات أُخرى مثل التلاوة، والكتاب، والحكمة، ويقصد منها تعضيد أهداف الرسالة السماوية التي تبين معارف السماء عبر الكتب السماوية فضلاً عن سنة الأنبياء عليهم السلام، التي تُعد جميعها من ضمن النظم العلمية والمعرفية لتضمنها الجوانب العقدية والتشريعية والقيمية، التي منَّ الله بها على الإنسان من دون جهد وعناء، فنستشف أن المطلوب هو التربية والسلوك المطابق للعلم على الرغم من أهمية العلم والتعليم.
7- إنَّ تقديم التربية على التعليم لا يقلل من شأن التعليم بل يعد مقدمة إليها كما هو الحال في سورة البقرة: الآية 129.
8- يتبين عبر المفردات (التلاوة، والكتاب، والحكمة)، المتضمنة في الآيات الأربع أنها دعوة لقراءة الحقائق بل قراءة معرفية تبتدأ بالنظر والفهم (التعليم)، وتنتهي بالهدف الأكبر (التربية) بوصفها غاية السماء.
9- عند التأمل في الآية التي قدمت العلم على التربية ندرك أنها جاءت على لسان إبراهيم عليه السلام متضرعاً لله تعالى في هداية ذريته على يد النبي محمد صل الله عليه وآله وسلم، ولا شك أنَّ الهداية إلى حقائق الأشياء ومنها رسالة السماء، لا يمكن إدراكها إلا بالعلم، من أجل ذلك تقدم التعليم على التربية في هذه الآية حصراً من دون سواها، على حين نجد الأمر يختلف في الآيات الثلاث، فهي تتحدث عن أمر واقع، ومفهوم ساطع، حاولت الآيات بيانه.
أقول: وجب علينا أنْ ندرك أنَّ الهدف الأسمى لبعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام هداية الإنسان إلى طريق الحق علمياً لينتهي عملياً عند تربية النفس وتزكيتها بوصفها غاية السماء الكبرى.