شرنقة
خلف الجدران الفارهة أو المتهالكة، عزلة مفروضة وسط الجائحة، تخرج تلك الفراشة الساحرة من شرنقتها فاردة أجنحة التألق والجمال، لتسمو في رونق العشق المقدس.
أيامٌ وليالٍ عجاف على البعض، أجبروا على الخضوع لوصايا الأحكام الصحية والشرعية، اعتكافٌ اتخذه البعض الآخر للارتقاء روحا وعقلا وشعورا لملكوت الإله الواحد، كان لهم في رسول الله صلى الله عليه وآله أسوة حسنة، فهو المعتزل في غار حراء متعبدا متهجدا، وهو عليه السلام المعتكف في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، فهل شعر حينها بالوحدة أم كان له أنس من طراز آخر؟
إن أولي الألباب فطنون لسيرة الأولياء ممن أبحرت سفنهم في بحار القرب، فكان اتصالهم بذاتهم أولى ثمرات العزلة، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه، لقد أدركوا أن (الصبر على الوحدة علامة قوة العقل) (1) مثلما قال أمامنا الكاظم عليه السلام، هذا الإمام الذي قضى عمره في سجن المطامير فما ازداد نوره إلا قوة وإشعاعاً يملأ الخافقين.
لا ريب أن اعتزال الإنسان لأقرانه يستوجب بديلاً نافعاً، فمَن هو أكثر تأثيراً طيباً من الكتاب؟ فهو خير جليس، وأول وصايا الله سبحانه في كتابه الكريم عندما قال: (اقرأ) (2)، فما أروع أن يتدبر المرء في لآلئ حكمه وكنوز معارفه، ويستنير بهداه.
وحيث إن مداد العلماء يرجح على دماء الشهداء (3) كان لزاما أن نزداد علماً، فكما أُغلق باب التعلم المباشر، فتحت آلاف الأبواب للتعلم عن بعد، فهذه نعم الله تترى تتنزل على عباده، فطوبى لمن اغتنم فتح الباب قبل إغلاقه، فقد أسهمت المؤسسات الثقافية والدينية في نشر مختلف أنواع العلوم عبر التطبيقات الحديثة لتصل إلى الجميع وتكون في متناول أيديهم.
قال أمير البلغاء: (لا سلامة لمن أكثر مخالطة الناس) (4)، إن هذا الحَجْر المنزلي غدا بيضة القبان التي من المؤمل أن تعيد التوازن المنشود بين الكدح خلف دنيا زائلة والسعي لإعادة ترتيب أوراقنا مع خالق السموات والأرضين، فليست كل عزلة تجر بالوحدة والكآبة، ومن المفارقات أننا نعيش الوحدة أحيانا ولو كنا في جمع من الناس، متوارين كلٌ خلف شاشته الصغيرة، فهنيئاً لمن ارتشف من كؤوس الوصل كأساً لا يظمأ بعدها أبدا.
..............
(1) بحار الأنوار ج1 ص 137
(2) سورة العلق 1
(3) ميزان الحكمة ج3 ص 2067
(4) ميزان الحكمة ج 3 ص1965